آخر الاخبار
2023/09/27
تضيّق المسار الموثوق لوكالة الطاقة الدولية
تضيّق المسار الموثوق لوكالة الطاقة الدولية
.المهندس تركي حسن حمش- خبير بترول/ استكشاف وإنتاج

ضمن تقرير وكالة الطاقة الدولية IEA: "المسار الموثوق إلى 1.5° درجة مئوية"، الذي صدر في نهاية أبريل 2023، بشأن الإجراءات الرئيسية اللازمة للبقاء في متناول هدف اتفاقية باريس للحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض، تذكر وكالة الطاقة الدولية IEA أن السؤال الرئيسي الذي يجب طرحه هو:
ما الذي يجب القيام به الآن لتعزيز العمل -على المدى القريب- لوضع العالم على مسار موثوق به، يتوافق مع هدف أن لا يزيد الاحترار العالمي عن 1.5 درجة مئوية في عام 2100.
وبطبيعة الحال، فعند الإشارة إلى الإضافات من الطاقة المتجددة يكون المقصود بشكل أساسي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي ساهمت بحوالي 14% من إجمالي الطاقة الكهربائية التي تم توليدها في العالم عام 2022.
يذكر التقرير أربعة توجهات تشكل أسس المسار الذي تقترحه الوكالة الدولية، ولعل من أهم هذه التوجهات ضرورة أن تتضاعف السعة المضافة من الطاقات المتجددة ثلاث مرات من مستويات 2022 بحلول عام 2030، لتصل إلى حوالي 1200 جيجاوات سنوياً، وهو ما يمثل في المتوسط 90% من قدرة التوليد الجديدة كل عام.
مؤخراً، نشرت وكالة الطاقة الدولية في سبتمبر 2023، تحديثاً لتقريرها، حمل عنواناً يتضمن تناقضاً جلياً، إذ كان العنوان: "لقد ضاق المسار نحو الحد من الاحتباس الحراري العالمي بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية، لكن نمو الطاقة النظيفة يبقيه مفتوحاً"
وكعادتها، تتابع وكالة الطاقة الدولية نشر أرقام ومسارات وأهداف طموحة، لكنها غالباً ما تبتعد عن جوهر الوقائع الملموسة على الأرض، وهو ما يحتاج إلى النظر في بيانات من جهات أخرى.
تشير بيانات "الوكالة الدولية للطاقة المتجددة" إلى أن العالم أضاف سعة جديدة بلغت 295 جيجاوات من مصادر الطاقة المتجددة في عام 2022، ويتضح من تفاصيل تلك البيانات أن طاقة الرياح والطاقة الشمسية شكلت 90% من تلك السعة الإضافية. كما توضح التفاصيل أن معدل نمو مصادر الطاقة الكهرومائية شبه ثابت عند 2% خلال السنوات العشر الماضية، وتوضح كذلك أن معدل نمو الطاقة الحيوية بلغ حوالي 6% خلال نفس الفترة، لكن هذه الأنواع من المصادر لا تشكل أكثر من 2.5% من إجمالي السعات الجديدة. بناء على ذلك يمكن القول إن معظم السعة السنوية الإضافية التي تدعو إليها وكالة الطاقة الدولية هي من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أي أن العالم سوف يحتاج إلى إضافة نحو 1100 جيجاوات من سعات التوليد سنوياً اعتماداً على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
لكن تتبع السعات المضافة من هذه الطاقات خلال السنوات الماضية يوضح أن العالم نجح في أفضل الأحوال في إدخال سعة توليد إضافية بلغت 266 جيجاوات فقط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في عام 2022. وبالتالي فإن الوصول إلى هدف وكالة الطاقة الدولية المشار له في التقرير، يحتاج إلى مضاعفة السعة المضافة أكثر من 4 مرات (وليس 3 مرات فقط حسب التقرير) خلال 7 أعوام، بينما احتاج العالم فعلياً إلى حوالي 11 عاماً لمضاعفة السعة المضافة أقل من 4 مرات من 71 جيجاوات عام 2011 إلى 266 جيجاوات عام 2022.
وضمن نفس المساق، يؤكد تحديث تقرير وكالة الطاقة الدولية، على أن مبيعات سيارات الشحن المتوسطة والثقيلة ذات الانبعاثات الصفرية لابد أن تصل إلى حصة سوقية تبلغ حوالي 35% في عام 2030، ويجب كذلك أن تصل مبيعات السيارات الكهربائية في نفس الفترة إلى حصة سوقية تبلغ حوالي 67%. أي أن الحصة السوقية لمبيعات السيارات الكهربائية يجب أن تتضاعف قرابة 5 مرات خلال 7 سنوات كذلك، إذ أن حصتها السوقية -بحسب التقرير نفسه- لم تتجاوز 14% من المبيعات في عام 2022. وبطبيعة الحال لا تنسى الوكالة أنه للوصول إلى هذه الحصة السوقية، فلابد من فرض معايير جديدة حول غاز ثاني أكسيد الكربون، وتطبيق حظر إنتاج سيارات محركات الاحتراق الداخلي، وبالتأكيد زيادة الحوافز الحكومية والاستثمار في البنية التحتية لشواحن السيارات.
لكن تقرير الوكالة تجاهل بعض الأصوات الأوروبية التي تعالت مؤخراً، محذرة من الخطط الخضراء. ولعل آخرها كان الانتقاد الذي وجهه وزير المالية الألماني "كريستيان ليندنر" للساسة في بروكسل بسبب سعيهم إلى سن قواعد أكثر صرامة للطاقة النظيفة للمباني، محذراً من أن مثل هذه الخطط يمكن أن تثير رد فعل عنيف وخطير من الناخبين وتغذي صعود اليمين المتطرف. وفي حديثه إلى صحيفة Politico خلال مقابلة في وزارة المالية في برلين يوم 11 سبتمبر 2023، قال "ليندنر" إن الأوروبيين يعانون من الإفراط في التنظيم - أو "الروتين في كل مكان". وحث رئيسة المفوضية الأوروبية على "إيقاف مؤقت" لتشريعات الاتحاد الأوروبي الجديدة التي تهدف إلى الحد من انبعاثات غازات الدفيئة خلال فترة الركود الاقتصادي الناجم جزئياً عن ارتفاع تكاليف الطاقة.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن بعض الشركات العملاقة في صناعة السيارات، قد كبحت من لجام خططها حول السيارات الكهربائية، فشركة BMW مثلاً، كانت قد أعلنت في منتصف عام 2022 أن 50% من مبيعاتها في عام 2025 ستكون من السيارات الكهربائية، لكنها عادت مؤخراً لتضيف عبارة إلى خططها، مفادها: "إذا سمحت الظروف بذلك". وشركة مرسيدس بدورها والتي كانت تؤكد أن كل مبيعاتها ستكون سيارات كهربائية في عام 2030، أضافت مؤخراً عبارة: إذا سمحت ظروف السوق بذلك. من جهة أخرى قالت الحكومة البريطانية يوم 20 سبتمبر 2023 على لسان رئيسها " ريشي سوناك" إنها ستؤجل فرض حظر على بيع السيارات الجديدة التي تعمل بالغاز والديزل لمدة خمس سنوات، وهو ما أثار غضب شركات صناعة السيارات التي حذرت من أن هذه الخطوة ستقوض جهود الصناعة للتحول إلى السيارات الكهربائية. وأعلن رئيس الوزراء عن التأجيل في الوقت الذي قام فيه بتخفيف بعض سياسات الطاقة الخضراء التي تنتهجها الحكومة، على الرغم من المعارضة الشديدة من نشطاء المناخ وأعضاء حزبه وشركاته. وبرر رئيس الحكومة موقفه بالقول: "يبدو أننا اتبعنا نهجاً من شأنه أن يفرض تكاليف غير مقبولة على الأسر البريطانية التي تعاني من ضغوط شديدة". وإذا التزمت الحكومة بسياساتها المناخية الحالية "فإننا نخاطر بخسارة تضامن الشعب البريطاني".
ولا يقتصر التردد حول خطط السيارات الكهربائية على الشركات الأوروبية فقط، فشركة GM الأمريكية بدورها والتي كانت قد أعلنت في عام 2021 أنها ستوقف بيع سيارات محركات الاحتراق الداخلي في عام 2035، قالت مؤخراً إنها ستكون محايدة كربونياً بحلول عام 2040، لكنها لن تلتزم بإنهاء بيع مركبات محركات الاحتراق الداخلي بحلول ذلك التاريخ. ووصف بعض المسؤولين التنفيذيين في الشركة هدف القضاء على انبعاثات العوادم من مركباتها الخفيفة الجديدة بحلول عام 2035 بأنه مجرد "طموح" وليس "يقيناً".
عموماً، لابد من التنويه إلى أن كمية كربونات الليثيوم اللازمة لصناعة بطارية السيارة الكهربائية، تختلف حسب حجم البطارية ونوعها، فعلى سبيل المثال، تحتاج بطارية سيارة "تسلا- الموديل 3" التي تبلغ سعتها 82 كيلو واط ساعة إلى 10 كغ من كربونات الليثيوم، بينما تحتاج بطارية سيارة "نيسان ليف" التي تبلغ سعتها 40 كيلو واط ساعة إلى 6 كغ من كربونات الليثيوم، وعموماً يتراوح متوسط كمية كربونات الليثيوم للبطارية الواحدة بين 8- 12 كغ. وبناء على خارطة الطريق نحو صافي الصفر الكربوني، ترى وكالة الطاقة الدولية ضرورة وصول مبيعات السيارات الكهربائية في عام 2030 إلى 210 مليون سيارة، مما يعني أن تلبية الطلب العالمي لبطاريات السيارات الكهربائية يحتاج إلى رفع الإنتاج بمقدار ثلاثة أضعاف في عام 2025، وستة أضعاف في عام 2030. إلا أن منتدى الطاقة الدولي يؤكد أن المشاريع الجديدة لإنتاج الليثيوم في العالم تحتاج ما بين 6- 15 سنة لتوضع على الإنتاج، مما يعني أن أسواق الليثيوم ستشهد أزمة حادة خلال السنوات القليلة القادمة.
من جهة أخرى لا يشير التقرير إلى أن كلفة توليد الكهرباء من الطاقات المتجددة ارتفعت، فعلى سبيل المثال ارتفعت كلفة عنفات الرياح بنسبة 38% خلال سنتين من نحو 0.86 مليون دولار/ميجاوات عام 2020، إلى حوالي 1.2 مليون دولار/ ميجاوات في عام 2022، وهو أمر متوقع في ضوء الطلب المتزايد على المعادن المستخدمة في بناء العنفات، فخلال نفس الفترة ارتفعت كلفة النيكل بنسبة 72%، وارتفعت أسعار الموليبدنيوم بنسبة 285%،، وارتفعت أسعار العناصر النادرة بمتوسط بلغ 126%، أما الزنك، والكروم، والنحاس، والمنغنيز، فقد ارتفعت بنسبة تراوحت بين 23- 52%.
فضلاً عن ذلك، ارتفعت تكاليف مشاريع الطاقة الشمسية بدورها، إذ تشير البيانات مثلاً إلى أن كلفة المشاريع الكبيرة من الطاقة الشمسية ارتفعت بنحو 19% في الهند بين عامي 2021 و2022.
وإجمالاً، يشير تقرير لشركة الاستثمارات المالية LAZARD إلى أن التكلفة المستوية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ارتفعت للمرة الأولى في تاريخها في العام الحالي لتصل حتى 96 دولار/ ميجاوات ساعة، بينما كانت قد وصلت إلى 41 دولار/ ميجاوات ساعة في عام 2021، كما ارتفعت التكلفة المستوية لتوليد الكهرباء من عنفات الريح لتصل حتى 75 دولار/ميجاوات ساعة.
وكما حصل في التقرير السابق عام 2021 "خارطة الطريق نحو الانبعاثات الصفرية"، فإن التحديث الجديد لتقرير وكالة الطاقة الدولية لا يتضمن تقديراً فعلياً للتكلفة "الاقتصادية" لتحويل الاقتصاد العالمي للعمل على مصادر الطاقة المتجددة فقط، بل يكتفي بالتحذير من أن إجمالي الاستثمارات المتوقعة في صناعة الوقود الأحفوري عامة بين عام 2023 و2030 تبلغ 3.6 تريليون دولار، وأن الوصول إلى صافي الصفر الكربوني عام 2030 يحتاج إلى أن تصل الاستثمارات في مجال الطاقة النظيفة إلى 4.5 تريليون دولار في فترة الثلاثينات من القرن الحالي. ولا يعدو تحديث التقرير الحالي -كسابقه- أن يذكر أن الوصول إلى هذه الاستثمارات الهائلة يحتاج إلى مزيج من الدعم العام الدولي، ورأس المال الخاص والاستثمارات المحلية التي تيسرها سياسات أقوى وأكثر فاعلية.
وضمن هذا المضمار لا يمكن نسيان تذبذب موقف وكالة الطاقة الدولية من الاستثمار في الصناعة البترولية، فقد أطلقت تحذيراً عام 2017 من أن إمدادات النفط العالمية قد لا تتمكن من مواكبة الطلب بعد عام 2020 إذا لم يوافق العالم على مشاريع بترولية جديدة في أقصر وقت ممكن، وقد حثت الوكالة قادة صناعة التنقيب عن النفط على الاستثمار الفوري لإيجاد وتطوير المزيد من إمدادات النفط. لكنها عادت في عام 2021، ودعت إلى إيقاف الاستثمارات في أي مشاريع جديدة في مجال الاستكشاف والإنتاج. ثم عادت مؤخراً بعد الأزمة الروسية الأوكرانية لتؤكد في أبريل عام 2023 على أهمية ضخ استثمارات جديدة في مجال استكشاف وإنتاج الغاز الطبيعي لأهمية هذه المشاريع في تلبية الطلب المتزايد على الطاقة!
ومن الواضح أن مواقف وكالة الطاقة الدولية باتت تعكس بشكل صريح مواقف سياسية أكثر مما هي تقنية تجاه القضايا البيئية والمناخية، وهو ما بات يلاحظ علناً من حتى التصريحات الرسمية لبعض المسؤولين الحكوميين في أوروبا.